تعدد اللغات والترجمة: أسطورة بابل
بقلم الأستاذ: حـمـزة زغـــار
وُجِدَت الترجمة
لأن البشر يتكلمون لغات مختلفة، «Translation exists because men
speak different languages.»[1] هكذا يستهل 'جورج
ستاينر' (George Steiner)
الفصل الثاني من كتابه حول الترجمة
والتعدد اللغوي (After
Babel) (ما بعد بابل)، نخرج من هذه
المقدمة البسيطة بفكرتين أساسيتين:
الفكرة الأساسية الأولى عبارة عن حقيقة
بدهية [2] «Truism»ليس بوسع أي أحد
أن ينكرها أو يقفز فوقها، وهي أنَّ في
هذا العالم تعددية لغوية وثقافية وعرقية هائلة لا يمكن تجاوزها إلاَّ بالترجمة، إذ يُقَدِّر
علماء الأعراق عدد اللغات الموجودة حاليا في العالم و ذلك حسب آخر الإحصاءات ما
بين (3000 إلى 7000) لغة محكية، على أن الرقم الأكثر تداولا هو (6000)[3]
لغة محكية، والسبب وراء عدم دقة وتحديد هذه الإحصاءات له ما يبرره إذا ما أخذنا
بنظر الاعتبار جملة من العوامل والظروف التي تقف كحجر عثرة أمام علماء الأعراق. أوَّلُها:
غياب المعرفة الكافية بالحالة اللغوية في بعض المناطق المنعزلة و البعيدة عبر
العالم أو تعذُّر الوصول إليها، و يُصطلح على هذه المناطق القليلة الارتياد بـالمناطق
البيضاء، [4]«Zones
blanches » « Blank spaces »[5] مثل 'غينيا الجديدة' « New
Guinea » التي تضم
لوحدها أكثر من (1000) لغة. أمَّا العامل الثاني فيمكن ردُّهُ إلى صعوبات التفريق بين
اللهجة و اللغة؛ بمعنى أوضح: التقرير إنْ كانت بعض الأشكال اللغوية تؤلِّف لغات
مختلفة أم أنها عبارة عن لهجات مختلفة عن لغة واحدة وفي هذه الحالة يتم استثناؤها
من الإحصاء؛ ولعلَّ أحسن مثال على ذلك يمكنني أن أسوقه هنا هو المثال الفرنسي،
فبالرَّغم من وجود عدة مجتمعات لغوية داخل التراب الفرنسي تشكِّل هويات إقليمية
متميزة، على غرار اللغات البريتانية (Breton)
والكاتالانية (Catalan)
والباسكية (Basque)،
إلاَّ أنَّ الجمهورية الفرنسية لا تعترف سوى باللُّغة الفرنسية كلغة رسمية. أمَّا
العامل الثالث فيعود بكل بساطة إلى موت اللغات وذلك بانحسار استعمالها أو بموت آخر
متكلِّم من متكلِّميها، "إن هناك
لغة واحدة تنقرض كل أسبوعين."[6]
إنْ كان من
غير المقدورِ عليه تقدير عدد اللغات المحكية في العالم فإننا نستطيع على الأقل
تحديد عدد اللغات الرئيسية والتي يصل عددها إلى (19) وهي: اللغة العربية والصينية
والإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية واليابانية والكورية والروسية والإسبانية
والبرتغالية والملايوية-الإندونيسيَّة والهندية و(البنجابية والماراثيَّة
والتاميليَّة والتيلوجيَّة والبنغالية) والأُردية*، أما اللغات الأكثر تداولا فلا يتجاوز عددها (6)
لغات وهي لغات العمل في هيئة الأمم المتحدة.[7] لعل أحسن ما يُمكن القيام به دون اللجوء إلى
ترجمات، حسب 'مادام دو ستايل' (Madame de Staël)، يكمن في معرفة جميع
اللغات التي كُتبت بها أعمال كبار الشعراء كالإغريقية واللاتينية والإيطالية
والفرنسية والإنجليزية والإسبانية والبرتغالية والألمانية، غير أنَّ القيام بذلك
يتطلب وقتا طويلا ومساعدة أكبر، ومع هذا لا يمكن للمرء أن يُقنع نفسه بأنه يستمتع
بهذا الفكر وذلك لصعوبة اكتساب هذه اللغات والإحاطة بها بشكل جيد.
« La
meilleure manière, j’en conviens, pour se passer des traductions, serait de
savoir toutes les langues dans lesquelles les ouvrages des grands poètes ont
été composés ; le grec, le latin, l’italien, le français, l’anglais,
l’espagnol, le portugais, l’allemand: mais un tel travail exige beaucoup de
temps, beaucoup de secours, et jamais on ne peut se flatter que des
connaissances si difficiles à acquérir soit universelles.»[8]
إنَّ قدرة الإنسان
على اكتساب تلك اللغات محدودة، قلة قليلة هي تلك التي تستطيع أن تطّلع على ثقافات
الشعوب الأخرى في لغاتها الأصلية فـ: "هذا الخيار ممكن من الناحية العملية
بصورة جزئية فقط، ولنسبة ضئيلة من الناس، أمَّا السواد الأعظم من المتلقين فهو
بحاجة إلى الترجمة ولا يستطيع التواصل بدونها مع الثقافات الأجنبية."[9]
وطبقا لمصادر موثقة فإن سجلات التاريخ تشير كما يقول 'جورج ستاينر'، إلى وجود
أفراد تمكنوا من اكتساب وإتقان ما يربو عن خمسةٍ وعشرينَ لغةً أجنبيةً. ولكن 'جورج
ستاينر' يضع استثناءا من نوع آخر أمام هذه الفئة القليلة وهي محدودية الحجم الزمني
لعمر الإنسان في هذه الحياة.
« There are reliable records
of polyglots with some measure of fluency in anywhere up to twenty-five
languages. Is there any boundary other than the time span of individual
lives ? »[10]
تذكر المصادر
التاريخية أنَّ الملك 'ميثريداتس الأكبر' (Mithridates the Great) الذي كان يتقن 22 لغة أجنبية، وهي لغات الأقاليم التي كانت تخضع
لسلطانه، كان يتحدث مع رعيته بشكل مباشر دون وساطة المترجمين[11].
كما يذكر التاريخ أيضا المترجم و المستشرق والرحالة البريطاني الشهير الذي ترجم قصص
'ألف ليلة وليلة' إلى الإنجليزية، وهو 'السير فرانسيس ريتشارد
بيرتون' (Sir Francis Richard Burton)، الذي عُرِفَ عنه بأنه تعلم أكثر من ثلاثين لغة أجنبـية*.
والنتيجة المنطقية إذن، هي أنَّ هذه 'الفئة القليلة' أو 'المترجمين' هي التي يعتمد عليها الناس لمعرفة الآخر و الولوج إلى عالمه، "أمَّا عن المنفعة فهي بديهية. إذا أردنا أن نقتصد في تعلم اللغات الأجنبية فإننا سنكون سعداء بوجود ترجمات."[13]
والنتيجة المنطقية إذن، هي أنَّ هذه 'الفئة القليلة' أو 'المترجمين' هي التي يعتمد عليها الناس لمعرفة الآخر و الولوج إلى عالمه، "أمَّا عن المنفعة فهي بديهية. إذا أردنا أن نقتصد في تعلم اللغات الأجنبية فإننا سنكون سعداء بوجود ترجمات."[13]
الفكرة الأساسية الثانية: مفادها أن الترجمة نشاط إنساني
لا غنى عنه، كانت الحاجة إليها قديمة موغلة في القدم، فقد ارتبط وجودها بظهور
اللغات وذلك بالنسبة للترجمة الشفهية وباختراع الكتابة بالنسبة للترجمة التحريرية،
وتُشير الدراسات إلى أن الترجمة كنشاط قائم بذاته قد ظهرت منذ 4500 عام.[14]
كما تشير النصوص التي كتبت على الألواح الطينية بالخط المسماري، والتي تعتبر أقدم
الوثائق التاريخية على الإطلاق، إلى أن مهنة الترجمان كانت معروفة لدى السومريين الذين
أطلقوا عليه في ذلك العهد تسمية 'إيمي بال'، أي 'مُبدل الكلام' أو الرجل
القادر على الانتقال من لغة إلى أخرى، أما البابليون والآشوريون فقد أطلقوا عليه
تسمية 'ترجومانوم' وهي التسمية التي لم تتغير كثيرا رغم الهوة الزمنية
السحيقة، وبفضل إجراء 'تغيير في مواضع الحروف' استطاعت هذه الكلمة أن تجد لها
مكانا حتى في قاموس اللغة الألمانية: (دولميتش).
« The profession of
interpreter is attested in Sumerian texts [….] The term eme-bal, meaning
something like "speech changer," designates a man able to change from
one language into another. The Babylonian and Assyrian equivalent of the Sumerian
eme-bal is targumannum (interpreter), a word that survives not
only in the Aramaic targum (translation), but also in the Turkish dragoman,
turguman, and so on that by metathesis eventually led to the German form
dolmetsch (interpreter). »[15]
غير أننا لا نستطيع أن نحدد بشكل دقيق تاريخ
ظهور الترجمة الشفهية، شأننا في ذلك هو شأن الباحثين في أصل نشوء اللغات، فقد كثرت
الفرضيات التي تناولت هذا الموضوع بين قائل بـ'المصدر الإلهي' « the
divine source » لظهور
اللغات وقائل بأنَّ اللغات جاءت 'محاكيةً لأصواتِ الطبيعة' « the natural sound source »، وبين معتقدٍ بأنَّ أصول أصوات اللغات تتضمن 'علاقة بين الوضع
المادي أي 'الإيماءات' وبين أصوات النطق' « the genetic source » وفريق آخر يقول بـوجود 'تلاؤم الفيزيولوجي' « the physical adaptation source ».[16] إلا أنَّ
معظم مُنظِّري الترجمة يربطون ظهور الترجمة بـ'أسطورة بابل' ويتبنّونها دون تحفظ، إنها
تلك الحادثة التي جاء ذكرها في التراث اليهودي- المسيحي، فالقصة التوراتية لبرج بابل
قد سحرت المترجمين وطلاب الترجمة زمنا طويلا. والعهد
القديم يحتوي قصة عن السقوط في التنويع اللغوي، الذي
يُقرأ غالبا كأسطورة لأصل الترجمة.
« The biblical story
of the tower of Babel (Genesis : 11 :1-9) has long fascinated
translators and students of translation. It contains the Old Testament story of
the fall into linguistic diversity, which has often been read as a myth of the
origin of translation.» [17]
جاء ذكر هذه
الحادثة في سفر التكوين في الإصحاح الحادي عشر ومفادها أن الناس الذين كانوا
يتكلمون لغة واحدة، قرروا تشييد برج عالٍ لبلوغ عنان السماء من أجل بلوغ المعرفة
القصوى، غير أنَّ الرَّبَ عاقبهم وذلك بتعداد لغاتهم، حتى أضحوا لا يدركون مقاصد
بعضهم البعض، والعلامة 'ابن خلدون' له رأيه حول هذا الموضوع:
" أصاب النمروذ وقومه على عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام ما أصابهم في
الصرح وكانت البلبلة وهي المشهورة وقد وقع ذكرها في التوراة ولا أعرف معناها.
والقول بأن الناس أجمعين كانوا على لغة واحدة فباتوا عليها ثم أصبحوا وقد افترقت
لغاتهم قول بعيد في العادة إلا أن يكون من خوارق الأنبياء فهو معجزة حينئذٍ، ولم
ينقلوه كذلك؛ والذي يظهر أنه إشارة إلى التقدير الإلهي في خرق العادة وافتراقها
وكونها من آياته كما وقع في القرآن الكريم ولا يعقل في أمر البلبلة غير ذلك. "[18]
هكذا كان
العبور من لسانٍ وحيدٍ إلى ألسنةٍ متعددةٍ، عوقب الناس ( وذلك استنادا إلى التراث
اليهودي-المسيحي) بواسطة التشتيت وعدم القدرة على التفاهم فكانت 'الترجمة'، وهو أحد
الاعتبارين الاثنين اللذين خرج بهما الدكتور 'طه عبد الرحمن' من 'قصة بابل'، حيث
أطلق على الاعتبار الأول تسمية 'التفاهم البعيد' وهو عكس 'التفاهم القريب':
"...فهذا
تفاهم قريب ييسره الاجتماع على لغة مشتركة، وذلك تفاهم بعيد يعترضه الاختلاف بين
لغات متباينة في مبانيها ومعانيها؛ ولا سبيل إلى هذا التفاهم البعيد إلا بسلوك
طريق الترجمة التي سوف تتولى تهذيب الفروق في المباني وتذليل الخفاء في
المعاني."[19]
أما الاعتبار الآخر الذي استخلصه
الدكتور 'طه عبد الرحمن' من 'قصة بابل' فيسميه بـ'الخفاء المعنوي' ومفاده أن
انقسام اللغات وتفرعها عن اللغة الأولى؛ التي تتصف بالشمولية و المثالية؛ جعلها
تتمايز فيما بينها، فهي ناقصة بالضرورة مقارنة باللغة الأولى الأصلية، ذلك أن كل
لغة من هذه اللغات كانت قد أخذت شيئا عن اللغة الأولى لم تأخذه باقي اللغات، وهو
ما يجعل كل واحدة منها متميزة في وجه من الوجوه عن اللغات الأخرى، إذ " لم
تعد الحقيقة وقفا على لغة واحدة تنقل عقلا واحدا وتجمع بين أفراد مجتمع واحد، بل
صارت ملكا مشاعا بين لغات متباينة تحمل مدارك متفاوتة، وتتكلمها مجتمعات متباعدة؛
وحيثما تقررت المباينة، تعثرت الإبانة، فاللسان الذي يختلف عن غيره من الألسنة من
وجوه مخصوصة، يخفى عليها من هذه الوجوه، فيكون الاختلاف اللغوي بذلك سببا في
الخفاء المعنوي." [20]
Hemza Zeghar
* اللغات التي جاءت بين قوسين هي لغات محكية في الهند وتكتب
بالإنجليزية-مع مراعاة الترتيب- كما يلي:
(Punjabi, Marathi, Tamil, Telugu & Bengali) أما اللغة الأردية (Urdu) فهي لغة باكستان وبعض أجزاء الهند وتكتب بالأحرف
العربية.
*كان
تعلم عدد كبير من اللغات الأجنبية واكتساب وتحصيل مختلف أنواع العلوم والآداب
والمعارف، سمة من السمات التي ميزت ما يعُرف بالمثقف الموسوعي « Polymath » أو «Polyhistor » ، والذي يُسمَّى أيضا
بـ«Homme de
renaissance » أي رجل عصر النهضة، بالإضافة إلى فئة المستشرقين « Orientalists » أمثال السير 'وليام
جونز' ( William
Jones ) الذي كان متمكنا من العربية والعبرية والفارسية وضليعا في
الدراسات اليونانية واللاتينية، كما كان شاعرا أيضا وفقيها في القانون وباحثا في
علوم شتى. (للمزيد حول موضوع الاستشراق والترجمة أنظر الفصلين الثالث والرابع من
هذا البحث).
[1] George Steiner, After Babel (Aspects of Language and
Translation), Third Edition, Shanghai Foreign Education Press, 2001, P. 51.
[2] ibidem.
[3] Les
Cahiers de Science & Vie, Hors Série n°118, Aout-Septembre 2010, Les Origines Des Langues, P. 12.
[4] ibidem.
[6] زاد العلوم: موت لغة. في: مجلة
القافلة، مجلة ثقافية تصدر كل شهرين. مارس-أبريل 2010، العدد 2 المجلد 59، الناشر:
شركة الزيت العربية السعودية (أرامكو السعودية). ص: 44.
[8] Anne-Louise-Germaine Madame
de Staël Holstein. Œuvres complètes de Madame de Staël, Volume 9. Hauman,
1830. P. 300.
[9] د. عبده عبود. هجرة النصوص،
دراسات في الترجمة الأدبية والتبادل الثقافي. منشورات اتحاد الكتاب العرب. 1995.
ص: 15.
[10] George Steiner, Ibid. P. 301.
[11] «Mithridates communicated with his subjects (without the use of
interpreters) in the 22 languages spoken in his territories.» the
previous quotation In :
Geneviève Zarate, Danielle Lévy, Claire J. Kramsch. Handbook of Multilingualism and
Multiculturalism. Archives contemporaines, 2011. P. 379.
[12]
Daniel Weissbort and
Astradur Eysteinsson. Translation- Theory and Practice : A Historical
Reader. Oxford University Press, First published 2006. P. 251.
[13] بول ريكور. عن الترجمة، ترجمة: الأستاذ الدكتور حسين خمري.
منشورات الاختلاف، الطبعة الأولى 2008. . ص:
42.
[14] Julio-César Santoyo. Blank
Spaces in Translation History. In : Charting the Future of Translation
History. Edited by : Georges L. Bastin and Paul F. Bandia. University of
Ottawa Press, 2006. P. 13.
[15]
Jan Assmann. Translating Gods : Religion as a Factor of Cultural
(Un)Translatabilty, In. The
Translatability of Cultures : Figurations of the Space Between. ed by:
Sanford Budick and Wolfgang Iser. Stanford University Press, Stanford,
California, 1996. P. 27 – 28.
[16] George Yule. The Study of
Language. Third edition, thoroughly revised & updated. Cambridge University
Press, New York, Published in the United States of America, 2006. P. 1-6.
[17] Routledge Encyclopedia Of Translation Studies. Edited
by: Mona Baker, London & New York. P. 21.
[18] ابن خلدون. تاريخ ابن خلدون.
بيروت، دار الفكر، ج، 2، ص: 78.
[19] د. طه عبد الرحمن. فقه الفلسفة:
1- الفلسفة والترجمة. المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1995. ص: 62-63.
[20] د. طه عبد الرحمن. نفس المرجع
السابق. ص: 62.
Commentaires
Enregistrer un commentaire